فصل: الجزء الأول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفصّل بعض العلماء في ذلك فقال: إن تركه لعدم الداعي إليه فهو معذور، وإن تركه مع الداعي إليه، ولكن داعيه إلى الضرر أقوى، فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه، فإن أدّى الواجب عليه منه لم يبق لها حق، ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به.
{وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} بعد أن رغّب اللّه في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه ذكر في هذه الآية جواز الفرقة إذا لم يكن منها بد، وسلّى كلا من الزوجين، ووعد كل واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر إذا قصد الفرقة تخوّفا من ترك حقوق اللّه التي أوجبها.
{وَكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا}. أي وكان اللّه ولا يزال غنيا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه.
قال اللّه تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}.
أخرج ابن أبي حاتم أنّ هذه الآية نزلت في جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.
وأخرج الشيخان عن جابر أنه قال دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ عليّ فعقلت فقلت يا رسول اللّه: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث، فنزلت آية الفرائض.
وهذه الآية آخر آيات الأحكام نزولا.
وروي أنّ أبا بكر رضي اللّه عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها اللّه في سورة النساء في الفرائض [12]، فأولها في الولد والوالد، وثانيها في الزوج والزوجة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء [176] أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. أو من الأب، والآية التي ختم بها سورة الأنفال [75] أنزلها في أولي الأرحام، وقد أجمع العلماء على أنّ هذه الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} إلخ وتقدّم لك بيان ذلك مستوفى.
واختلف العلماء في المراد بالولد في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وقوله تعالى: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} فقال بعضهم: إن المراد به الذكر، لأنّه المتبادر، ولأنّه لو أريد به ما يشتمل الذكر والأنثى لكان مقتضى مفهومه أن الأخت لا ترث النصف مع وجود البنت، مع أنها ترثه معها عند جميع العلماء غير ابن عباس، ولكان مقتضاه أيضا أنّ الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، والعلماء متفقون على أنه يرث الباقي بعد فرض البنت وهو النصف.
والمختار الذي عليه المحققون أن الولد هنا عامّ في الذكر والأنثى، لأنّ الكلام في الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا، إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر. ولأنّ الولد مشترك معنويّ وقع نكرة في سياق النفي، فيعم الابن والبنت، وما ورد على المفهوم ليس بقادح.
أما أولا: فلأن الأخت لا يكون لها فرض النصف مع وجود الولد مطلقا، أما مع الابن فلأنّه يحجبها. وأما مع البنت فلأنها تصيرها عصبة، فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية، فلا حاجة إلى تخصيص الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما.
وأما ثانيا: فلأن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها. لأنّ المتبادر من قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} أنه يرث جميع تركتها عند عدم الولد، ومفهومه أنّه عند وجود الولد لا يرث جميع تركتها، أما مع الابن فلأنه يحجبه، وأما مع البنت فلأنه يرث الباقي بعد فرضها، فصحّ أن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، تدبّر ذلك فإنّه دقيق.
وبعد فإنّ الآية قدّرت في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة صورا أربعا:
الأولى: أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة، فلها النصف بالفرض، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فلها بالرد.
وكما ترث الأخت الواحدة من أخيها النصف، كذلك ترثه من أختها، لأنّ مقدار الميراث لا يختلف باختلاف الميت ذكورة وأنوثة، وإنما يختلف باختلاف الوارث.
الثانية: أن يكون الأمر بالعكس تموت امرأة ويرثها أخ واحد فله جميع التركة، وكما يرث الأخ الواحد جميع تركة أخته كذلك يرث جميع تركة أخيه.
الثالثة: أن يكون الميت أخا أو أختا وورثه أختاه، فلهما الثلثان.
الرابعة: أن يكون الميت أخا أو أختا، والورثة عدد من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وظاهر الآية في هذه الصورة الرابعة عدم التفرقة بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأب في أنهم يشتركون في التركة إذا اجتمعوا، لكنّ السنّة خصصت هذا العموم، فقدمت الأشقاء على الإخوة لأب، فإذا اجتمع الصنفان حجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب.
بقي من الصور المحتملة في الميراث بالأخوة:
1- أن يكون للميت الكلالة عدد من الإخوة الذكور، فالحكم أنهم يحوزون جميع التركة، لأنّ الواحد منهم إذا انفرد حاز التركة كلها، فأولى إذا اجتمعوا أن يحوزوها.
2- أن يكون للميت الكلالة أكثر من أختين، فالحكم أنهن يأخذن الثلثين بالفرض، لأنّ أكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين، فأولى ألا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين، وقد تقدم ذلك.
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} مفعول يبيّن محذوف، والمصدر المنسبك مفعول لأجله بتقدير مضاف، أي: يبين اللّه لكم الحلال والحرام، وجميع الأحكام كراهة أن تضلوا.
ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول (يبيّن) أي يبين اللّه لكم ضلالكم، لتجتنبوه، فإن الشر يعرف ليتقى، والخير يعرف ليؤتى.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها أحوالكم وما يصلح لكم منها وما لا يصلح.
{عَلِيمٌ} ذو علم شامل محيط، فيبيّن لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم. اهـ.

.تأملات في سورة النساء:

للشيخ صالح المغامسي

.الجزء الأول:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه سننتقل إلى سورة النساء بعد أن أنهينا مواقف ثلاث مع سورة آل عمران والمناسب في الانتقال واختيار آيات اليوم قبل أن نشرع في بيان أحكام عامة من سورة النساء أن نبين أننا تحدثنا فيما مضى في سورة آل عمران عن بعض من جرائم اليهود وتكلمنا عن مسجد الصخرة وما إلى ذلك، واليوم ننتقل إلى إتمام الحديث لكن من سورة أخرى هي سورة النساء.
وننتقي بعضها للعلم ببعض من عقائد النصارى بعد أن بينا شيء من عقائد اليهود ثم نعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات.
فنقول مستعين بالله عز وجل.
مقدمة عن السورة وسبب تسميتها:
سورة النساء سوره مدنية، جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن. ذكر الله فيها جل وعلا جملة من العقائد وجملة من الآداب وجملة من الأحكام. ولأن السورة من أكثر سور القران حديثا عن أحكام النساء، نعتت بسورة النساء. وقد سبق أن بينا أن تسميت سور القران الراجح أنه توقيفي، فعله الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق.
فإذا قيل عن سورة النساء إنها سورة النساء الكبرى فإن المقصود بسورة النساء الصغرى هي سورة الطلاق لأن كلا السورتين تحدثتا كثيرا عن أحكام النساء وما يتعلق بهن.
أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلا فهي:
قول الله جل وعلا: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا} إلى قول الله عز وجل: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما} سورة النساء [153ـ162].
فقد سبق أن بينا شيئا من جرائم اليهود في سورة آل عمران، وفي هذا السياق يخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالا، لا يختص هذا السياق بمرحلة دون عينها، فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالا، لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة، فمنذ موسى عليه الصلاة السلام أنزلت عليه التوراة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قرابة أكثر من ألف عام، خلال الألف عام هذه كان اليهود يعيشون بعث إليهم مابين موسى وعيسى عليهم السلام أنبياء، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل. ولم يبعث أحد بعد عيسى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
عبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا 153} سورة النساء.
فالله يقول لنبيه هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن اليهود يطلبون منك كتابا ينزل جملة قالوا أن موسى عليه السلام جاءته التوراة جملة واحدة، فنحن يا محمد صلى الله عليه وسلم لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتابا جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى جملة، فرد الله جل وعلا عليهم لنبيه أن يقول لهم: {يسألك أهل الكتاب} من باب التعزية، {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء}. فلا تعجب يا نبينا ولا تستغرب من هذا الطلب، لأنهم قد طلبوا طلبا أكبر منه، وهو طلبهم من موسى عليه السلام يوم قالوا له {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}. وهذا وقد قلنا أن القرآن يفسر بعضه بعضا ذكره الله مفصلا في سورة البقرة قال الله جل وعلا: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56)}. فهذا أول وأعظم طلبهم، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا ما لا يخفى.
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة}. لما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعد ما أماتهم كما قال جل وعلا في سورة البقرة: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} وهذا صريح بأن الله أماتهم ثم أحياهم.
وقد قال بعض العلماء من المفسرين: أن إماتتهم وإحيائهم كان في يوم وليلة.
{فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات}. اتخذ هذه الكلمة تنصب مفعولين، ذكر الله واحدا منهما ولم يذكر الآخر لدلالة المعنى عليه بمعنى {ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات} يظهر من السياق واضح أنهم اتخذوا العجل إله، فإلها هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله ولأن هذا سبب نقمة الله عليهم وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها، أو دابة ينحرونها ليأكلوها، أو لأعلافهم أو لأي شيء آخر لكان هذا أمر مشروع، لكن القرآن يفسر بعضه بعضا.